راسم الدائرة | شعر

 

(1)

لا أحسن الرسم،

لكنّني، في غياب الوجوه،

أجيد التخيّل. أحدّث نفسي، ثمّ أسأل: أيّ عينيكَ أغلقتَ،

حين صوّبتَ على حماة قلعتنا؟ "كانت اليسرى". وبأيّ شاهدٍ اتَّرَسْتَ؟

"بالصخور. لم يكن شواهدُ قرب المقام. قبور أطفالٍ، وحسب".  والسبّابة، هل ارتختْ،

عن الزناد، يا فتى؟" ربّما، حين باغتتْني طلقة العراقيّ في اليمنى". وهل تذكّرتَ أهلكَ، يا وحيد، لتنجو مثلهما؟

"كلّا. لم يكن لديّ متّسعٌ من الوقت… متُّ". لكنّني أزوركَ الآن، بعد ثلاثٍ وسبعين عامًا،

وأربعة أشهرٍ، وستّةٍ وعشرين يومًا، ولديّ متّسعٌ من الوقت، هل من خاتمة؟

"لا شيء أجمل، في القنص، من نشوة الفرق بين سرعة الضوء،

وسرعة الصوت: رصاصةٌ لكَ، أخرى عليك".

 

 

(2)

أعرف عاشقيْن، ليست لهما صورةٌ واحدةٌ معًا:

لا يحبّان الاجتماع في الصور، ولا يملّان من النقاش حولها.

كان، إن مازحها، يقول: "كيف ستذكرينني إن افترقنا؟" تجيبه: "لن أذكرك".

وحين يغضب، كانت تضيف: "… ولن نفترق". "وإن متُّ قبلكِ؟"، يلحّ، "أيّ صورةٍ سوف ترسلين

للجريدة في رزمة النعي؟" تضحكُ: "صورة السنبلة، الّتي لا أحبّها، في رسائلكَ القصيرة، ربّما، أو مقطعًا من الشِّعر

لا يقول شيئًا عن حبّنا العاثر: "وُلِدَ، وعاش، ومات، ولم يترك ولدًا، ولا صورةً، ولا أثرًا!" … في أواخر نيسانَ، 

بالفعل، مات قبلها، وحين صاغ رفاقه النعي، لم تكن هناك، ولا في الجنازة. لكنّها، في شباط،

بعد عامين، لحقت به، دُفِنَتْ إلى جواره. وقد قال لي صديقي، المصوّر،

إنّه، بعد ثلاثين عامًا، التقط لقبريهما صورةً جماعيّةً، ملوّنةً،

وقد مالت الشاهدة على الشاهدة.

 

 

(3)

أعرف عاشقيْن،

آخريْن، لا يخشيان الظهور،

في صورةٍ واحدةٍ، لكنّهما لا يعاودان رؤيتها، 

ويكفيهما التناوب على المرآة ذاتها شرّ التذكّر والهجر. 

حالمان: كلّما هالها منظرٌ طيّبٌ، ردّدتْ: "كأنّي في كتابٍ"، وكلّما لامستْ كفّه كفّها، ردّ:

"تبارك المدّ، في مصحف الربّ، تباركت همزة الوصل، تباركت مقلة ابن مقلة..."

لكنّها تقاطعه، وتسأل ضاحكةً: "هل له دَيْنٌ عليكَ لكي تباركه؟" يجيب: 

"له دَيْنٌ عليّ: لا يذكّرني به، لكنّني أخشى سداده،

وأخشى على قلبي الأعسر، من يُمْنَةِ الحرف، 

وجرّة الحبر، والقافية".

 

 

(4)

الغريب يترجمني،

ولا أترجمه… هكذا، دون اتّفاقٍ،

سوى على وضوح الزمرّد، وطالع الثور، ورعونة نيرون.

كلانا يكتب عن الحبّ والحرب في السطر ذاته، دون حاجةٍ لقوّات حفظ السلام،

الّتي لا تتقن التحادث باللغات العدوّة. حين يكتب عن المرأة، يحيلني ضمير غائبٍ في بيتها،

ويحيلها شبحًا بعينين أجمل من أغنيات الربيع في كتب الصغار، وعباءةٍ، حين تفتحها،

يتضاعف الحبّ. وحين أكتب عن غيابها، أحيله مجاز مقتحِمٍ، أَرْمَلِ الحظوظ في لقائها،

أحرّكُ ستائر بيتها بالتخاطر، أنشر شفيف ثيابها على عصيّ الحروف، أعلن

أنّ مَعامل السكّر تغلق أبوابها، حين يطارحها الغرام… وأربط القمر،

بسلسلةٍ من الغيم، ليحرس أنفاسه وأحلامها.

 

 

(5)

الغريب يرافقني،

إلى كلّ شيءٍ. لا أنهره، ولا يتركني.

لكنّنا، من باب حسن النوايا، اتّفقنا أن نوقّع معاهدة الصلح،

في المسافة الصفر بين ندّين، وأن نبقى رفيقين كالنار والحطب، لا يفنى ولا أنطفئ.

كلانا يمقت التشفّي: لا أضحك لحزنه، ولا يبكي لفرحتي. لا أنتشي بعثرته، ولا يعودني إن مرضتُ.

وإن دقّ بابًا، أخشى على رأسه- المطرقة… لا يواصل النطح، إن زجرتُه، لكنّه يستثقل يدي على جبينه،

إذ أطبّبه، فأسحبها. حين يوقظني من النوم، أعيره حلمي. وإن غفا، أهشّ الفراشات كي لا يصرن خفافيشَ كابوسه.

هكذا، كان عهد النجاة بيننا، من فتنة الحبّ والنصر، إلى جحيم الخلاف على الله، والأنبياء،

والحروب الّتي شنّها الطيّبون، على غيرهم، مُكْرَهين… والآن، لم يبقَ إلّا الرحيل،

ننجزه، معًا: فلا يودّعني، ولا أذكره.

 

 

(6)

حين ودّعني،

 قبل اجتياز الجدار، وانتباه الجنود،

على الحاجز العسكريّ، صرّ في يدي ما يشبه الوصيّة:

"الشاطئ والبحر جاران قاسيان، لا يحسنان الكلام، ولو تهجّأ كلٌّ منهما اسم آخَره،

مثلما خطّه الربّ على صفحة الزبد والرمل، لأمكن النطق، وجاء الخلاص، إلى الكون، وانتهت الحرب".

لم أكترث، حينها، بالمجاز، وكنتُ أخشى عليه، وقد غطّتْ هالاتٌ سوداءُ باطن أجفانه، ووهنتْ أعضاؤه،

وأبطأ المشي… لكنّني، حين التقيتُ عالمة الآثار، حبيبته، أخبرتْني أنّه، في آخر أيّامه،

حدّثها، وهو يهذي، عن امرأةٍ فاتنةٍ تشبهها، خرجتْ له من الموج،

وقبّلته، بصمتٍ، على صدره، ومصّتْ قلبه بشفتيها النديّتين،

واستبدلتْه بمرجانةٍ عضّها قنديل بحر.

 


 

عبد الرحيم الشيخ

 

 

 

أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في «جامعة بير زيت».